روائع مختارة | قطوف إيمانية | أخلاق وآداب | وباء البحث عن الفضيحة..

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > أخلاق وآداب > وباء البحث عن الفضيحة..


  وباء البحث عن الفضيحة..
     عدد مرات المشاهدة: 3381        عدد مرات الإرسال: 0

يستلهم البحث عقل كلّ مفتون بالتقصّي، كما لا يدرك صعوبات الإثبات والنفي إلا المتمرّس في تتبّع صغائر الأمور وخفاياها، إنّ كلمة البحث كلمة تقتصر في هدفها على إيجاد ضائع أو إبراز خفي، لكنّها تتعدّى في غايات متبنّيها إلى الصالح والطالح، إلى النافع والضارّ، وإلى أيّ تبعة من شأنها التأرجح بين المحمود والمذموم..وما عقدت مثل هذه المقدّمة إلا للدخول في غايتي، وهي أن أتحدّث عن إختيار الناس لمواضيع أبحاثهم، ومستوياتها، وغاياتها، وفوائدها، وعلى الله سبحانه قصد السبيل.

لقد تسلّط الناس بلا إدراك على تسخير أعظم نعم الله عليهم -العقل- في البحث عن فضائح بعضهم البعض، وصارت أعلى الهمم من بينهم تلك الموبوءة التي تركن إلى المائل ولا تحطّ إلا على القبيح.. قدرة هائلة إستنفذت في التقصّي المريض وخسائر عظمى تردّت بلا أثمان، إنّ إهلاك الناس بعضهم البعض بهذه الطريقة السافلة مؤشّر خطير إلى عقاب لا يحتمل قليله.. وتداعيات الحال دليل جليّ على إبتعاد الناس عن الحقّ، فإلى أيّ مدى يسعى باحث الفضيحة وقد أهلك نفسه.

[] تتبّع العورات في الإسلام..

بعدما أوضح الله سبل الرشاد لكي لا يكون لأحد حجّة بعد الرسل: {يا أيّها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظنّ إنّ بعض الظنّ إثم ولا تجسّسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إنّ الله توّاب رحيم} [الحجرات:12].

«يا معشر مَنْ آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنّ من اتبع عوراتهم، يتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته» ذكره الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم 4083، وعقّب عليه بقوله: حسن صحيح.

[] صفة الوباء ...

إنّ كلمة تتبع تعني طلب الشيء على مهل بنيّة إظهار كلّ ما خفي منه، والعورات هي كلّ ما يستره الإنسان حياءً سواء كان المستور معيباً أو عكس ذلك، وتتبّع العورات يكون بإستخدام أحد الحواس الخمس أو جميعها فيسمّى: تنصّت من الإنصات، أي الاستماع بالأذن «ومَنْ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ صُبَّ فِي أُذُنِهِ الآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» البخاري 7042، والآنك هو الرصاص المذاب، تجسّس من الجسّ أي اللمس باليد ، الترصّد من الرصد أي الجلوس بشكل مخصوص لرصد الشيء بالعين، التحسّس وهو البحث بأيّ الحواس الخمس كالسؤال باللسان، أو الشمّ بالأنف، أو كما تقدّم، إنّ إشتغال الناس بهذا المهلك بمحض إراداتهم بل برغباتهم الحثيثة لضلالة عظيمة كما قال بكر بن عبد الله: إذا رأيتم الرجل موكلاً بعيوب الناس، ناسياً لعيبه، فإعلموا أنّه قد مُكِرَ بِهِ.

ولو أنّ الناس ينظرون في نواقصهم لإنصاعوا لإصلاحها أو سترها كأقلّ ما يكون من عمل، روى ابن جرير في تفسيره عن قتادة في قوله تعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} قال: إذا شئت والله رأيته بصيراً بعيوب الناس وذنوبهم، غافلا عن ذنوبه، يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذل أو الجذع في عين نفسه، قال أبو عبيد: الجذل الخشبة العالية الكبيرة، رواه البخاري في الأدب المفرد مرفوعاً وموقوفاً، وصحّح الشيخ الألباني وقفه على أبي هريرة، ورواه ابن حبان مرفوعاً.

[] من المتتبّع؟!!

وهذا التتبّع المريض الساعي خلف الشاذّ لا يقتصر على العامّة من الناس، بل إنبرى لصفّ سقطات العلماء، وكبوات أصحاب العلم والحكماء «لا تتتبّع عورات المسلمين، فإنّك إن فعلت أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم» سنن أبي داود، من حديث معاوية مرفوعاً، والناس في زماننا هذا لا يقتصرون على تتبّع العورة المستورة فحسب، بل عمدوا إلى سبر الحركة، وإنزلاق اللفظة، وتحريفها، وتشكيلها، حتّى لتكون خطأ قائماً بذاته مع إغفال محاسنه وإجتهادته، فيكون الشخص وكأنّه كومة فساد، بل الشاذّ.

إنّ المتطفّل بهذا الشكل يسعد إذا أثبت كذب محدّثه، ويطول الأمر ليضطرّ المتحدّث في كثير من الأحيان للحلف وبثّ الأقسام والطرف الثاني مصرّ على تكذيبه، أيّ أخلاق مسلمين تبعث على التشنيع بهذه الأساليب وقد قال الشيخ العودة عن هذا كلاماً انتفعنا به: إن نزع الخطأ من سياقه الذي كان يملك تخفيفاً له، ووضعه داخل دوائر وأقواس وعلامات تعجّب وإستفهام وتسليط الإضاءة الإضافيّة على بؤرة ما نظنّها خطأ، إنّ هذا يعدّ تجاوزاً لضوابط النقد العادل، فالتجريد للأخطاء من سياقها يجعلها مؤهّلة لرسم صورة تمثّل منهجاً تبرز فيه درجة الخطأ إلى حدّ الإنحراف المنهجيّ، ليصبح المنقود حزمة من الأخطاء المحضة، وإذا كان مقصد الناقد حسناً في حماية الصواب الذي يراه، فهو يفرز عند القرّاء والمتلقّين روحاً مختلفة لا تحتفظ بأخلاقيّة هذا العالم الأصليّة، وقد يأخذ من العلماء ردودهم وما فيها من الإغلاظ، دون جوانب خيرهم الأخرى.

ومن الصور المشوّهة لتتبّع العورات: كثرة السؤال والإلحاح فيه، حتّى ليغدو المسئول في حال يرثى لها، إن أجاب بما لا يرغب فضح نفسه، وإن صمت فضحه السائل بصمته، والله تعالى يقول: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]، وما كان لمؤمن أن يأت شيئا نهى عنه الله وكره به نبيه، ومن شائن الأفعال فضح المرء لعورة نفسه «كُلُّ أَمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ المُجاهرينَ، وإِنَّ مِن المُجاهرةِ أَن يعمَلَ الرَّجُلُ بالليلِ عمَلاً، ثُمَّ يُصْبحَ وَقَدْ سَتَرهُ اللَّه عَلَيْهِ فَيقُولُ: يَا فلانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْترهُ ربُّهُ، ويُصْبحُ يَكْشفُ سِتْرَ اللَّه» متّفق عليه.

ومن صورها أيضاً دخول البيوت بلا إستئذان، والرسول قد أمر بالإستئذان ثلاثاً، والإنصراف إن لم يأذن صاحب الدار، ومثله إختلاس النظر للدور فإنّه أمر محرّم «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، فقد حلَّ لهم أن يفقؤوا عينه، فافقؤوا عينه، فلا ديّة له، ولا قصاص» الحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب في الاستئذان ص 726، رقم 5172، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً به.

هل يجوز التجسّس في بعض الأحوال؟! ذكر الدكتور توفيق فائدة في هذا الشأن أيضا فقال: قد يحملو قد قال يعقوب حين وصّى أبناءه {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ} [يوسف:87]، قال {تحسّسوا} ولم يقل {تجسسوا} لأنّ التحسّس يكون دائماً برفق وبنيّة صالحة لم يكن يقصد يعقوب عليه السلام الإضرار بأحد، أراد فقط البحث عن إبنيه، بعكس ما ورد في الآية الكريمة {ولا تجسّسوا} التي وردت في سياق النهي عن الإضرار بالمسلمين، وفي حديث رسول الله «لا تجسّسوا ولا تحسّسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا»، وليت أنّ نهج الناس كان كما فعل يعقوب لصلح الحال بإذن الله، لأنّ الناس لو رفقوا ببعضهم البعض في تقويم أخطائهم لما مالت الحال «إنّ الله رفيق يحبّ الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه{ يقول ابن مسعود رضي الله عنه: إنّا قد نهينا عن التجسّس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] وقد قيل لعثمان: إنّ قوماً إجتمعوا على سكر ولهو وقصف، فجاء إليهم فوجدهم قد تفرقوا، فحمد الله وأعتق رقبة.

إنّ الستر نعمة لا يقدّر وزنها، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة» فهل سيسعى بعد هذا في سبيل فضيحة؟ نسأل الله العافية.

الكاتب: قويت الشلهوب.

المصدر: موقع رسالة المرأة.